يسميهم البعض بـ(ضباط فرنسا) ويسميهم البعض الآخر بـ(حزب فرنسا في الجزائر)، ويتفق الاثنان على أنهم ضباط وضباط صف جزائريون فروا من الجيش الفرنسي للالتحاق بالثورة بعد اندلاعها، لكن لا أحد منهما تساءل: لماذا لم تصدر وزارة الدفاع الفرنسية مذكرة اعتقال باسمهم أو وضعهم ضمن قائمة المطلوبين لدى العدالة الفرنسية؟.
• مذكرات الكشف عن المستور
حملت مذكرات الفارين من الجيش الفرنسي، التي نشرت في الجزائر أو فرنسا، الكثير من الاعتزاز بماضي أصحابها، وحتى تصريحات من تقلدوا رتبا عسكرية أو أوسمة أو نياشين من جنرالات فرنسا أثناء تأديتهم الخدمة العسكرية تحت العلم الفرنسي لا تخلو من هذا الاعتزاز بالماضي.
ولا أبوح سرّا إذا قلت أن المجاهدين خلال الثورة كانوا يتجنبونهم، لأنهم كانوا يفضلون الحديث فيما بينهم باللغة الفرنسية. ويقول العقيد الطاهر زبيري في مذكراته، إن عددهم هو 200 عسكري مابين ضابط وضابط صف، إلا أن المتصفح لقائمة الجزائريين المتقاعدين من صندوق المعاشات للجيش الفرنسي يجدهم بالآلاف.
بعض الجيوش العريقة في الغرب تعمل بقاعدة: "إدلاء الضباط تحت القسم بشهادتهم حول المهمات التي يتكلفون بها بعد تأديتها" مما يوفر الحقائق والمعلومات في المؤسسات العسكرية تكون في خدمة المؤرخين والباحثين، ولهذا لا نجد تناقضا في مذكراتهم مع ما هو موجود في الأرشيف.
هناك من يفرق بين من أدوا الخدمة العسكرية الإجبارية تحت الراية الفرنسية قبل اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954م ومن أدوها بعد اندلاعها، وهناك من يفرق بين من فروا من الجيش الفرنسي قبل قيام الحكومة الجزائرية المؤقتة عام 1958م ومن فروا بعد ذلك لغاية 1962م.
الحقيقة الأولى التي كشفت عنها هذه المذكرات بين سطورها المخفية، هي أنهم كانوا مكلفين بمهمة وفشلوا في تأديتها خلال الثورة لأنهم لم يستطيعوا التسلل إلى صفوف جيش التحرير داخل الوطن وإنما بقوا خارجه في دوائر الحكومة المؤقتة أو جيش الحدود، بالرغم من أن السلطات الفرنسية قامت بمحاولة دعمهم في 13 ماي 1955م بإطلاق سراح أعضاء من اللجنة المركزية لحزب الشعب، وأن ديغول قدم مشروعا سماه "سلم الشجعان" في 23 أكتوبر 1958م، إلا أن هذا المشروع فشل فاضطر إلى إيجاد البديل في ما يسمى بـ"دفعة روبار لاكوست" المتعلقة بهروب جماعي لمجموعة من الضباط الجزائريين الذين كانوا في الجيش بألمانيا.
والحقيقة الثانية هي أنهم تمكنوا بعد استرجاع السيادة الوطنية في 5 جويليه 1962م لغاية اليوم من إقصاء ضباط جيش التحرير والتحكم في مصير البلاد.
• الحرب غير المعلنة
ٌإن أول من نبّه إلى خطر ضباط فرنسا على الثورة الجزائرية هو علي منجلي في اجتماعات المجلس الوطني للثورة الجزائرية بطرابلس في سنة 1960م ولم يجد أذانا صاغية، في حين أن أول من تصدى لفكرة الاستعانة بضباط فرنسا لتنظيم الجيش الجزائري بعد استرجاع السيادة هو العقيد محمد شعباني الذي استغل مؤتمر جبهة التحرير لعام 1964م.
وتختلف الروايات حول رد فعل العقيد هواري بومدين الذي استعان بهم فهناك من نقل على لسانه: "إذا خيّرت بين المتعاونين من الأجانب وضباط فرنسا فسأختار ضباط فرنسا" وهناك من زعم أنه قال: "من الطاهر الذي يطهّر من؟". ويقول الرائد عمار ملاح، إنه حضر اجتماعا للضباط مع العقيد هواري بومدين وإن عبد المجيد شريف طرح الموضوع من جديد، إلا أن ردّ بومدين كان واضحا: "لو اسمع واحدا يتحدث عن ضباط فرنسا سأرمي حجرا في فمه". والمفارقة أن ضباط جيش التحرير الوطني لم يتحركوا للرد على هذا التهديد حتى الآن، وأغلب من تحدثوا عن مرحلة بومدين لم يتوقفوا عند جميع أسماء هؤلاء الضباط المنحدرين من الجيش الفرنسي، بالرغم من أنهم كلفوا بمهمات ضدهم.
يقول العقيد الطاهر زبيري في مذكراته صفحة 60: "إن الذي حقق مع العقيد شعباني ومرافقيه الحسين الساسي والعريف الجيلالي في سجن وهران هو الضابط الفار من الجيش الفرنسي ويدعى محمد تواتي الذي كان حينها برتبة ملازم ثان في الدرك الوطني وهو الذي أعد ملفات محاكمتي خلال الأزمة ورقي إلى أن أصبح جنرالا في الجيش ثم مستشارا برئاسة الجمهورية"، في حين يقول الرائد عمار ملاح أنه: "طلب من القاضي العسكري محمد تواتي ملعقة ليأكل بها وهو في السجن فرفض" وكان الأحرى بالاثنين وغيرهما أن يرفضوا وجوده في لجنتي الحوار ليوسف الخطيب وعبد القادر بن صالح؟.
تحدث العقيد زبيري عن الأسماء المتداولة في الإعلام الجزائري من ضباط فرنسا أمثال: محمد زرقيني، أوفمان بوتلة، عبد المجيد علاهم، أحمد عبد الغني، محمد تواتي ومصطفى، وتوقف عند عبد القادر شابو الذي تقلد أمين عام وزارة الدفاع وتحدث عمار ملاح عن بوزادة، سليم سعدي وخليل وعبد الحميد لطرش وشقيق عبد القادر شابو وعن أولئك الذين ارتكبوا جرائم حرب في حق الشعب الجزائري إبان الثورة أمثال: بورجل وبوشنافة.
وتفادى الطاهر زبيري تسمية الفارين من الجيش الفرنسي بضباط فرنسا مثل ما تفادى الحديث عمن قادوا عملية توقيف المسار الانتخابي في11 جانفي 1992م، بل اتهم الجبهة الإسلامية للإنقاذ بتزوير الانتخابات البرلمانية لـ26 ديسمبر 1991م، واختلف الاثنان حول ما حدث يوم 14 ديسمبر 1967م فقائد الانقلاب رفض تسميته بانقلاب، بينما من دبّر محاولة اغتيال بومدين أصرّ أنه انقلاب.
إن أول مواجهة بين ضباط الثورة وضباط فرنسا كانت على صفحات الجرائد في شكل حرب إعلامية بين الرئيس علي كافي ووزير دفاعه الجنرال خالد نزار وكادت أن تنتقل إلى المحاكم لولا تخوفات من سيّروا النظام الجزائري في الكواليس من فضيحة المجموعة.
يقول العارفون بالشأن الجزائري إن الفارين من الجيش الفرنسي بعد عام 1958م فشلوا في تنفيذ مهمتهم بسبب أن الثورة كانت بين أيدي أصحاب الباءات الثلاثة، ولكنهم نجحوا بعد استرجاع السيادة في اغتيال كريم بلقاسم وتهميش بوصوف وعبد الله بن طوبال ومنح العقداء الذين بقوا أحياء مناصب سياسية أو نفيهم في الداخل والخارج.
من الخطأ تحميل الرئيس هواري بومدين مسؤولية تهميش المجاهدين وخاصة ضباط جيش التحرير وإنما المسؤولية يتحملها الجميع، فالذين منحوا المجاهدين رخص فتح الحانات في عهد بن بلة هم المجاهدون أنفسهم ومن منحوا نساء الشهداء رخصة تأجير العمل بسيارات الأجرة هم المجاهدون، ومن منحوا شهادات الاعتراف بمن يسمون بالشهداء والمجاهدين المزيفين هم المجاهدون أنفسهم، ومن أعطى الشرعية لمن حكموا الجزائر من 1962م إلى غاية اليوم هم المجاهدون كذلك.
لكن من منعوا مذكرات عبد الله بن طوبال من النشر في عهد الشاذلي بن جديد هم أنفسهم الذين يرفضون اليوم نشر مذكرات الرئيس بن جديد، وهم يقومون بإغراق السوق بمذكراتهم أو مذكرات من يوالونهم.
وهناك حرب حقيقية غير معلنه على ما يمت بصلة إلى الثورة فحتى أبطالها قتلوهم وهم أحياء فالبطلة جميلة بوحيرد أطلقوا اسمها كشهيدة على كثير من المدارس والشهيد العقيد سي الحواس المدعو احمد بن عبد الرزاق حولوه إلى شهيدين في شارع واحد بحيث سموا مدرسة في بداية الشارع باسم الشهيد سي الحواس ومدرسة أخرى في نهاية الشارع باسم الشهيد احمد بن عبد الرزاق وكأنهم يريدون التشويش على أسماء الشهداء لدى الجيل الصاعد.